سقوط الأسد وسوريا الجديدة- تداعيات إقليمية وتحديات مستقبلية

مما لا ريب فيه أن أفول نجم نظام بشار الأسد وحزب البعث في الجمهورية العربية السورية بتاريخ الثامن من كانون الأول/ديسمبر من العام 2024، قد مثّل منعطفًا حاسمًا وطوى صفحة العام المنصرم، وجاء بمثابة مفاجأة مدوية غير متوقعة. ومع الإقرار بأن هذا الحدث قد تميز بوتيرة متسارعة في انهيار أركان النظام، واندفاع فصائل المعارضة صوب دمشق وحمص بعد حلب وحماة، إلا أن أبعاد هذا الحدث الجلل وتداعياته لا تنحصر في حدود الأراضي السورية، بل تمتد لتشمل المنطقة بأسرها، من المشرق العربي وصولًا إلى الخليج والمغرب العربي.
في هذا المضمار، ترى أطراف مؤثرة في المنطقة أن هذا التحول سيفتح الباب على مصراعيه أمام حراك متسارع وشامل لكافة الجماعات والمكونات الوطنية والمذهبية والعرقية التي تزخر بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي كتمت هواجسها وتطلعاتها منذ اتفاقية سايكس – بيكو. وقد تجلى لاحقًا أن هذا التقسيم قد تجاهل بعض التناقضات الدينية والعرقية، مما أدى إلى تراكم مشاعر الخوف والقلق لدى هذه المجموعات، وهو ما انعكس في صورة عنيفة وقاسية عندما وصلت إلى سدة الحكم.
من هنا، انطلقت تساؤلات جمة حول الدوافع الحقيقية التي حدت بالإدارة الأميركية الحالية والمستقبلية إلى الخروج عن سياستها الراسخة في حماية نظام الأسد في سوريا، باعتباره ضمانة تاريخية لأمن إسرائيل، والموافقة على قيام سلطة تستند إلى الأغلبية، ومن خلال تيار إسلامي سوري أجرى مراجعات فكرية شاملة.
ومما لا شك فيه أن العام الجديد سيشكل اختبارًا حقيقيًا حول كيفية تعامل الإدارة السورية الجديدة مع مختلف الفئات والجماعات والطوائف السورية خلال المرحلة الانتقالية التي يرجح أن تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر.
والحقيقة الجوهرية هي أن التركيبة السورية، التي فرضت وقائع ميدانية دامية طيلة سنوات الحرب الماضية، باتت منقسمة بين مجموعات ذات ولاءات متعددة، وهذا المسار يبدو طبيعيًا في ظل شراسة النظام وتخلي المجتمع الدولي عن الشعب السوري، باستثناء قلة من الدول على رأسها تركيا وقطر والكويت، وذلك لأسباب أخلاقية وسياسية.
بناءً على ذلك، يتبلور السؤال الأهم حول الأهداف الخفية التي تتطلع إليها واشنطن من التطورات السورية، ولكن من المؤكد أن الإجابة عن هذا السؤال المحوري لن تكون قريبة المنال، وستتكشف خلال السنوات القادمة، حيث ستواجه سوريا ورشة إصلاح ضخمة وغير مسبوقة، الأمر الذي يستلزم من القوى السورية المختلفة التخلي عن النزعة الشخصية، والتحلي بقدر كبير من الوعي يفوق التشبث بالقوة والعسكر.
وانطلاقًا من هذا المشهد، تسعى ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في مسعاها الانفصالي الدؤوب إلى تحقيق حلم إقامة الدولة الكردية المزعومة، خاصة وأن السلطة الجديدة في سوريا تعتبر الحليف الجديد لتركيا، وسيكون هذا المبرر بمثابة ذريعة رئيسية لإعلان تمردها على الدولة السورية الجديدة بزعامة أحمد الشرع.
ومع انهيار النظام الأسدي، انطلقت حملة محمومة داخل أروقة المؤسسات الأميركية، وبدعم من اللوبي الصهيوني في الغرب، لتأييد توجهات تدعو إلى تبني صيغة حكم فيدرالي في سوريا، وذلك وفقًا للمنطق الذي يروج له الأكراد بأنهم أكبر مجموعة عرقية لا تمتلك دولة خاصة بها، حيث يتوزعون بين تركيا والعراق وإيران وسوريا، ويبلغ تعدادهم أكثر من 40 مليون نسمة.
وتنطلق "قسد" وغيرها من الجماعات المماثلة من منطلق أنهم كانوا الأقدر على محاربة تنظيم الدولة في المراحل السابقة، وهو ما يجعلهم الأجدر بالحصول على قدر من الحكم الذاتي على الأقل داخل الدول التي يتواجدون فيها، وتحقيق الحلم الكردي الطموح، إلا أن تركيا ترفض رفضًا قاطعًا أي شكل من أشكال الحكم الذاتي والانفصال.
ويحظى هذا التوجه بدعم واسع من الأغلبية العربية، وهو الأمر الذي ينسحب أيضًا على أي نظام يصل إلى السلطة في سوريا، حيث كان نظام البعث من بين أكثر الأنظمة قمعًا ووحشية في التعامل مع الأكراد، وهو ما استغلته المجموعات الانفصالية لكي تمارس أدوارها الوظيفية.
لكن الأهم من ذلك هو وجود مرونة ملحوظة داخل أروقة ومراكز القرار الأميركية حيال التطورات السورية، الأمر الذي قد يكون هيأ الظروف لإعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط، وعلى أنقاض اتفاقية سايكس – بيكو التي أصبحت غير صالحة وغير ملائمة للاستمرار بها في المستقبل.
وعليه، فإن لبنان يجد نفسه مضطرًا للتعامل بروية وهدوء بالغين مع المشاريع التي يتم دراستها للمنطقة، وعدم الانزلاق في دائرة التناحر الطائفي والمذهبي الذي دمر لبنان وتسبب في أزمات محيطة أدت إلى انهيار الدولة واقتصادها، وتحديدًا منذ العام 2019 وما سبقه من سيطرة حزب الله على الدولة الوطنية اللبنانية، وذلك بعد أن كان لبنان دولة محورية في المشرق العربي قبيل العام 1969، أي منذ اتفاق القاهرة والصراع التاريخي الكبير بين اليمين اللبناني المتطرف ومنظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، فتح حزب الله لبنان أمام إسرائيل، من خلال قيام حكومة اليمين الإسرائيلي بشن حرب مدمرة، وتجاوزت إسرائيل أهدافها المعلنة في حماية حدودها وأمنها، واندفعت بعيدًا لطرح مسارات لإخضاع لبنان للقبول باتفاق مذل، مع اقتراحات تدعو إلى فتح النقاش حول التوجه نحو اتفاق تطبيع مستقبلي مع انسحاب حزب الله من شمال الليطاني وجنوبه، مع وجود مخطط لتهجير سكان الضفة الغربية إلى الأردن، وإنشاء الوطن الفلسطيني البديل بين سيناء والأردن ولبنان وفقًا لتطلعات الأحزاب اليمينية الإسرائيلية.
وخلال هذه الحرب، رفع نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة، خريطتين، وهو ما يشير إلى خريطة النفوذ الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، كما كان يدعو إليه سابقًا. ومن هنا يمكن فهم الطموح الإسرائيلي بالبقاء بعمق محدد في جنوب لبنان، من خلال تجريف نهر الليطاني إلى داخل الأراضي الإسرائيلية، وهو هدف إسرائيلي أساسي، ولكنه يصطدم برفض فرنسي ومعارضة إقليمية واسعة النطاق، وستكون سوريا أكبر المتضررين منه بعد لبنان، خاصة وأنه سيرفع شهية نتنياهو لضم أراضٍ أوسع من الجنوب السوري.
لكن ذلك يزيد من منسوب القلق العربي واللبناني حيال النوايا الإسرائيلية، من خلال التمهيد الدائم للبقاء في الجنوب، أو الاستيلاء على مناطق جديدة، في ظل ما يتحدث عنه نتنياهو بشأن استئناف الحرب مع حزب الله والوصول إلى شمال الليطاني، لكي يقوم الجيش الإسرائيلي بتمشيط المنطقة، بذريعة أن حزب الله لا يلتزم بتطبيق القرار 1701، ولكن ظهر عكس ذلك من خلال وصول الجيش الإسرائيلي إلى وادي الحجير قبل أيام.
هذا الأمر دفع بالجانب الأميركي إلى التحرك الفوري والضغط بقوة على إسرائيل للتراجع، مما يعني فشل اختبارات نتنياهو للتصادم مع لبنان، وهو ما دفعه لاحقًا إلى الانسحاب. وترافق ذلك أيضًا مع تصريحات إسرائيلية حول تأجيل الانسحاب من الجنوب حتى منتصف أبريل/نيسان المقبل، وهو ما لن يقبل به لبنان.
وبالتالي، فإن إفشال هذه الأهداف الإسرائيلية يقابله دعم غربي لانتشار الجيش اللبناني، وسيترجم ذلك بزيارة مرتقبة للمبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت، بالتوازي مع الحراك الخماسي في ملف رئاسة الجمهورية، والذي قد يتوج بانتخاب رئيس في التاسع من يناير/كانون الثاني.
هذا الحراك الرئاسي المتصاعد يأتي بعد زيارة وزير الدولة القطري محمد الخليفي إلى بيروت، ومن المقرر أن يزور لبنان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في أول زيارة سعودية رفيعة المستوى منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم، مما يعني عودة عربية مشتركة إلى لبنان وسوريا.
والأساس هو أن لدى اللجنة الخماسية قائمة شروط لمهمة الرئيس المقبل، والتي أصبحت معروفة، وأهمها إنجاز ترتيبات أمنية شاملة وإرساء الاستقرار، لا سيما في الجنوب مع تطبيق القرار 1701، بالإضافة إلى تحويل حزب الله إلى حزب لبناني من خلال حوار حول إستراتيجية دفاعية، وبالتأكيد هناك المهمة الأخرى المتصلة بإعادة الإعمار، ووضع خطة إصلاحية على المستوى الاقتصادي.
وما تم تبليغه لمختلف القوى السياسية اللبنانية، هو أن المطلوب التزام لبنان بالأجندة الدولية المفروضة، وخاصة مسألة السلاح والاستقرار والإصلاحات. ولذلك تتركز كل الضغوط على أن أي رئيس يجب أن يلتزم بهذه المعايير والمواصفات التي تم صياغتها بين الأطراف الخماسية.
من هنا، تعمد إسرائيل إلى إثارة المشاكل في لبنان وسوريا من خلال استمرار الخروقات في لبنان، والدفع بقوات "قسد" لتغيير خريطة سوريا من خلال المطالبة بالانفصال تحت ذرائع مختلفة، خاصة وأن إسرائيل، وبعد إسقاط حكم الأسد، توغلت في العمق السوري، وأصبحت قريبة من دمشق، أي أنها وضعت دمشق ومحيطها تحت مرمى نيران مدفعيتها، بحجة فهم طبيعة وعقيدة الحكام الجدد في سوريا، مما يعني أنها تسعى إلى التسلل وتحقيق مكاسب ميدانية لفرض أهدافها الجديدة بعد نتائج غزة ولبنان.
لكن إيران، المترقبة لكل ما يحدث، حريصة على إثارة المشاكل بطرقها المتعددة، حيث يطالب المحافظون في إيران بخوض المواجهة العسكرية إذا كانت حتمية، وخاصة بعد ما حدث في لبنان مع حزب الله، والانسحاب من سوريا مع فرار الأسد ونظامه. ويرى هذا الفريق أن ذلك أفضل من الحلول الدبلوماسية إذا كانت ستقود إلى ما يشبه الاستسلام.
لكن هذا الخيار لا يحظى بتأييد واسع، لأن عواقبه معروفة، وهو إعطاء الحجة لنتنياهو وترامب لضرب إيران، مما يعني أن إيران ستختار بين المواجهة العسكرية وطريق الدبلوماسية ووقف البرنامج النووي والانفتاح.
الأكيد أن العام 2024 قد أطاح بكل المعتقدات المتخيلة في السياسة الإقليمية، مع استمرار المذبحة المروعة في غزة، واضطرار حزب الله للقبول بفك الارتباط عن معركة الإسناد، وتقليم أظفار الميليشيات في العراق، وسقوط الأسد ونظامه في سوريا، مما يفتح العام 2025 مع دونالد ترامب على أحداث مشوقة ومثيرة، عنوانها تفاهمات مع فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وما تبقى من نظام إيراني، فيما الغائب حتى الحين هم العرب.